موضوع ـ أمير البحار ـ للصف السابع
الفقرة الأولى
كَمْ مِنْ عُظَمَاءَ وَارَتْ أَجْسَادَهُمُ الْقُبُورُ ، وَمَا وَارَتْ أَعْمَالَهُمْ الْجَلِيلَةَ ، وَإِنْجَازَاتِهِمُ الْمُبْهِرَةَ الَّتِي أَفَادَتِ الْإِنْسَانِيَّةَ عَلَى مَرِّ الْعُصُورَ، فَظَلَّتْ ذِكْرَاهُمْ حَيَّةً نَابِضَةً، تَأْبَى الذَّاكِرَةُ نِسْيَانَهُمْ، وَكَأَنَّهُمْ يَعِيشُونَ بَيْنَنَا أَحْيَاءَ ، وَلَمْ يُغَيِّبْهُمِ الْمَوْتُ يَوْمًا. وَابْنُ مَاجِدٍ أحَدُ أُولَئِكَ الْعُظَمَاءِ، كَانَ مَلَّاحًا وَجُغْرَافِيَّا عَرَبِيَّاً مُسْلِمَاً، بَرَعَ فِي هَذَا الْمَجَالِ حَتَّى لَقَّبَهُ الْبُرْتُغَالِيُّونَ( أَميرَ الْبِحَارِ).
وُلِدَ اِبْنُ مَاجِدٍ عَامَ ١٤٢١ م فِي مَدِينَةِ جِلِّفَارَ عَلَى السَّاحِلِ الشَّرْقِيِّ لِشِبْهِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، الَّتِي تَقَعُ حَالِيًّا بِدَوْلَةِ الْإمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُتَّحِدَةِ ، وَنَشَأَ فِي أُسْرَةٍ اِشْتَهَرَتْ بِوَلَعِهَا بِالْبَحْرِ وَالْأسْفَارِ، قَدْ عُرِفَ عَنْ وَالِدِهِ وَجَدِّهِ إبْحَارُهُمَا نَحْوَ الشَّوَاطِئِ الْمَجْهُولَةِ فِيْ الْهِنْدِ ، وَالْصِّينِ ، وَإِنْدُونِيْسْيَا، مِمَّا غَرَسَ فِي ابْنِ مَاجِدٍ التَّعَلُّقَ بِالْبَحْرِ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِ، وَهَكَذَا حَفِلَتْ حَيَاةُ هَذَا الْعَالِمِ الْعَرَبِيِّ الْفَذِّ بِالْمُغَامَرَاتِ وَالْأسْفَارِ وَالتَّجَارِبِ ؛ وَعَرَفَتْ إقْبَالًا شَغُوفًا عَلَى عُلُومِ الْمِلَاحَةِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ حَتَّى تَجَاوَزَتْ مُؤَلَّفَاتُهُ الْأَرْبَعَيْنِ، شَمِلَتْ أَسْمَاءَ الْعَدِيدِ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعْمُورَةِ وَالْجُزُرِ وَالْكَثِيرِ مِنْ قِيَاسَاتِ النُّجُومِ وَمَوَاقِعِهَا، كَمَا تَضَمَّنَتْ رَأْيَهُ فِي الْمَعْلُومَاتِ الْقَدِيمَةِ وَخَاصَّةً مَا أَوَرَدَهُ بَطْلَيْمُوسُ وَغَيْرُهُ مِنْ جُغْرَافِيِّ الْيُونَانِ وَالْعَرَبِ.
وَمِنْ إِنْجَازَاتِهِ الْعَظِيمَةِ أَيْضًا الْخَرَائِطُ الْبَحْرِيَّةُ الدَّقيقَةُ الَّتِي تُبَيِّنُ وُضُوحَ مَوَاقِعِ الْبُلْدَانِ وَالْمَسَالِكِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي تَوَصَّلَ إِلَيْهَا، وَمِنْهَا خَرِيطَةٌ بِخَطِّ يَدِهِ، تُوضِّحُ سَيْرَ الرِّحْلَةِ إِلَى رَأْسِ الرَّجَاءِ الصَّالِحِ ، وُصُولًا إِلَى الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ مُرُورًا بِبَحْرِ غَان.
وَمِنْ مُبْتَكَرَاتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ اقْتَرَحَ عَلَى صَانِعِي السُّفُنِ تَعْدِيلَاتٍ مُهِمَّةٍ ، تَجْعَلُهَا أَكْثَرَ سُرْعَةً وَقُدْرَةً عَلَى الْإبْحَارِ فِي الْمُحِيطَاتِ الْعَاصِفَةِ ، مَعَ اِسْتِخْدَامِ الْأَشْرِعَةِ الْمُثَلَّثَةِ وَلَيْسَ الْمُرَبَّعَةَ الَّتِي كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا الْأورُوبِّيُّونَ، وَالَّتِي كانت تَعُوقُ السُّرْعَةَ فِي الْمُحِيطَاتِ، هَذَا بِالْإضَافَةِ إِلَى تَطْوِيْرِهِ لِقِيَاسِ الْأَعْمَاقِ وَلِلْبُوْصَلَةِ الْمَائِيَّةِ وَتَطْوِيْرِهِ الاسْطِرْلَابَ الَّذِي يَعْنِي بِالْيُونَانِيَّةِ ( مِرْآةُ النُّجُومِ ) ، وَكَانَ يَقِيسُ اِرْتِفَاعَ النَّجْمِ.
. وَمِمَّا يُرْوَى عَنْ تَارِيخِ اِبْنِ مَاجِدٍ أَنَّ رِحْلَةَ الْاِسْتِكْشَافِيِّيْنَ الْبرتغَاليِّيْنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى سَوَاحِلِ إفْرِيقْيَا الشَّرْقِيَّةِ عَامَ 1498م ( ثَمَانِيَةٍ وَتِسْعِينَ وَأرْبَعُمِائَةٍ وَأَلْفْ ) وَعَلَى رَأْسِهِمْ( فَاسْكُو دِي جَامَا) دُهِشُوا مِنْ مُسْتَوَى التَّقَدُّمِ الْعَرَبِيِّ فِي الْمِلَاحَةِ ؛ إِذْ ذَكَرَ( دِي جَامَا ) فِي مُذَكِّرَاتِهِ أَنَّ الْمَلَّاحِينَ الْعَرَبَ الَّذِينَ اِلْتَقَاهُمْ كَانُوَا يَحْمِلُونَ بُوصَلَاتٍ مُتَطَوِّرَةٍ لِتَوْجِيهِ السُّفُنِ، وَآَلَاتِ رَصْدٍ وَخَرَائِطَ بَحْرِيَّةٍ مُفَصَّلَةٍ يَعُودُ بَعْضُهَا لِابْنِ مَاجِدٍ.
وَهَكَذَا فَإِنَّ الْحَديثَ عَنِ اِبْنِ مَاجِدٍ يُعِيدُ إِلَى الْأَذْهَانِ إِنْجَازَاتِ هَذَا الْعَلَّامَةِ الْعَرَبِيِّ، الَّتِي سَتَظَلُّ شَاهِدًا عَلَى عَظَمَةِ الْعُلَمَاءِ الْعَرَبِ، وَالْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَتَعَرَّضُ الْيَوْمَ لِهَجَمَاتٍ شَدِيدَةٍ ، مِنْ أَجْلِ طَمْسِ مَعَالِمِهَا وَاقْتِلَاعِ جُذُورِهَا وَنُكْرَانِ مَا قَدَّمَتْهُ لِصَالِحِ الْبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ.
تعليقات
إرسال تعليق