نَصُّ الْاِسْتِمَاعِ لِمَوْضُوعِ
قَطْرَةِ مَاءٍ
اِسْتَيْقَظَ خَالِدٌ فِي
الصَّبَاحِ، وَحَمَلَ إِبْرِيقَ الْمَاءِ لِيَسْقِيَ الْوُرُودَ فِي الشُّرْفَةِ،
فَلَاحَظَ قَطَرَاتِ مَاءٍ مُتَسَاقِطَةٍ عَلَى أَوْرَاقِ الْوُرُودِ، وَلَكِنَّهُ
لَمْ يُلَاحِظْ أثَرًا لِلْمَطَرِ، وَكَانَ الْفَصْلُ صَيْفًا، فَتَعَجَّبَ كَثِيرًا
وَقَالَ لِنَفْسِهِ: مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ قَطَرَاتُ الْمَاءِ هَذِهِ ؟ سَمِعَ
خَالِدُ قَطْرَةِ الْمَاءِ تَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ: مَرْحَبًا، أَنَا قَطْرَةُ نَدَى،
كُنْتُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ بُخَارًا فِي الْجَوِّ، وَعِنْدَمَا
اِنْخَفَضَتْ دَرَجَةُ الْحَرَارَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ تَحَوَّلْتُ
إِلَى قَطَرَاتِ مَاءٍ سَائِلَةٍ، وَسَقَطْتُ عَلَى وُرُودِكَ. إِنَّ قِصَّتِي
طَوِيلَةٌ جِدًّا لَا تَنْتَهِي، وَلَوْ بَقِيْتُ أُحَدِّثُكَ عَنْ رِحْلَاتِي لَأَمْضَيْتُ
سَاعَاتٍ طَوِيلَةٍ، بَلْ أيامًا ولياليَ..
كُنْتُ جَلِيدًا فِي أقْصَى
الشَّمَالِ الْبَارِدِ، وَعِنْدَمَا تَنْخَفِضُ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ كَثِيرًا
أَتَحَوَّلُ إِلَى كُتْلَةٍ جَلِيدِيَّةٍ صُلْبَةٍ.
وَفِي الصَّيْفِ سَطَعَتِ
الشَّمْسُ، وَبَدَأَ الثَّلْجُ يَذُوبُ وَيَتَحَوَّلُ إِلَى سَائِلٍ، فَتَدَفَّقَتْ
قَطَرَاتُ الْمَاءِ فِي السُّيُولِ وَالْأوْدِيَةِ، حَتَّى وَصَلْنَا إِلَى بَحْرٍ
وَاسِعٍ جِدًّا، وَصِرْتُ مَاءً مَالِحًا.
وَتَبَخَّرْتُ
بِسَبَبِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الدَّافِئَةِ، فَصِرْتُ بُخَارًا يَصْعَدُ فِي
الْجَوِّ عَالِيًا، حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى طَبَقَةٍ بَارِدَةٍ فِي الْجَوِّ،
فَتَحَوَّلْتُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى قَطْرَةِ مَاءٍ، وَكَوَّنْتُ مَعَ رَفيقَاتِي
مِنْ قَطَرَاتِ الْمَاءِ غَيْمَةً كَبِيرَةً فِي الْجَوِّ، مَلِيئةً بِالْمَاءِ
الْعَذْبِ، لِأَنَّ الْمِلْحَ يَبْقَى فِي الْبَحْرِ وَلَا يَتَبَخَّرُ.
سَاقَتِ الرِّيَاحُ
غَيْمَتَنَا إِلَى بِلَادٍ بَعيدَةٍ، وَبَقِينَا أيامًا وَلَيَالِيَ نَسْبَحُ فِي
الْفَضَاءِ، وَتَنْضَمُّ إِلَيْنَا قَطَرَاتُ مَاءٍ وَغُيُومٍ أُخْرَى، حَتَّى صِرْنَا
غُيُومًا مُتَرَاكِمَةً ثَقِيلَةً، لَا تَقْدِرُ الرِّيَاحُ أَنْ تَحمِلَهَا،
فَسَقَطْنَا مَطَرًا غَزِيرًا عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّهُولِ.
وَصَلْتُ إِلَى الْأَرْضِ،
وَنَزَلْتُ فِي التُّرَابِ، فَلَقِيَتْنِي بِذْرَةٌ مُلْقَاةٌ فِي الْأرْضِ، كَانَتْ حَبَّةَ شَعِيرٍ جَافَّةٍ،
فَدَخَلْتُ فِيهَا، وَصَارَتْ بُرْعُمًا، ثُمَّ سُنْبُلَةً مَلِيئةً بِحَبِّ
الشَّعِيرِ، وَبَقِيْتُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْحَبَّاتِ أَسَابِيعَ
عِدَّةٍ، وكانت اِسْتِرَاحَةً هَادِئَةً لِي.
وَفِي يَوْمٍ مِنَ
الْأَيَّامِ ، اِلْتَقَطَ طَائِرٌ حَبَّةَ الشَّعِيرِ، وَطَارَ بِي بَعيدًا
فَأَمْضَيْتُ فِي جَوْفِهِ سَاعَاتٍ، وَسِرْتُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَرَجْتُ عَرَقًا
عَلَى رِيشِهِ، وَتَبَخَّرْتُ فِي الْجَوِّ مَرَّةً أُخْرَى حُرَّةً طَلِيقَةً.
كَانَ الْجَوُّ حَاارًّا،
فَبَقِيْتُ بُخَارًا فِي الْجَوِّ يَمْضِي بَعِيدًا، وَيَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ،
ثُمَّ مَضَتْ بِيَ الرِّيَاحُ إِلَى جِبَالٍ عَالِيَةٍ بَعيدَةٍ، يَنْبُعُ مِنْهَا
نَهْرُ مَاءٍ كَبِيرٍ، وَالْأَمْطَارُ تَسْقُطُ هُنَاكَ كُلَّ يَوْمٍ، فَنَزَلْتُ
إِلَى النَّهْرِ، وَسِرْتُ فِي مَجْرَاهُ مَسَافَةً طَوِيلَةً.
وكانت رِحْلَةً جَمِيلَةً فِي
الْغَابَاتِ وَالْجِبَالِ وَالْأوْدِيَةِ. لَقَدْ أَحْبَبْتُ ذَلِكَ النَّهْرَ
كَثِيرًا.
وَلَكِنَّ سَعَادَتِي لَمْ
تَدُمْ طَوِيلًا، فَقَدِ اِعْتَرَضَ النَّهْرَ سَدٌّ هَائِلٌ، وَالْمَاءُ
وَالْأَنْهَارُ لَا تُحِبُّ السُّدُودَ، وَدَخَلْتُ فِي مَحَطَّةِ ضَخٍّ
لِلْمِيَاهِ، تَسْحَبُ الْمَاءَ فِي أَنَابِيبَ إِلَى الْمُدُنِ، وَسِرْتُ
تَائِهَةً فِي شَبَكَاتِ الْمِيَاهِ، لَا أعْرِفُ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ ؟ حَتَّى
وَجَدْتُ نَفْسِي فِي قَارُورَةِ مَاءٍ، وَشَرِبَنِي أحَدُ الْأَشْخَاصِ، كَانَ
قَدْ أَكَلَ سَمَكًا كَثِيرًا، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْحَلْوَى وَالْفَوَاكِهِ،
وَالنَّاسُ فِي الْمُدُنِ يَهْدِرُونَ كَثِيرًا مِنَ الْمَاءِ، وَيَسْتَهْلِكُونَ
مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، وَيُضَيِّعُونَ جُزْءًا كَبِيرًا فِي غَيْرِ
فَائِدَةٍ، لِمَاذَا لَا تَحْفِرُ يَا خَالِدُ فِي بَيْتِكُمْ بِئْرَ مَاءٍ ؟ لَقَدْ
أَمْضَيْتُ فِي الْمَدِينَةِ أَسْوَأَ رِحْلَةٍ فِي حَيَاتِي حَتَّى سَقَطْتُ فِي
شَبَكَةِ صَرْفٍ لِلْمِيَاهِ، وَلِحُسْنِ حَظِّيْ فَقَدْ أَنْقَذَتْنِي ( شَجَرَةُ
كِينَا ) ضَخْمَةٌ، كانت مَزْرُوعَةً فِي طَرِيقِ الصَّرْفِ الصِّحِّيِّ، وَلَوْ أَنَّ
النَّاسَ يَزْرَعُونَ الْأَشْجَارَ الْحَرَجِيَّةَ فِي مَسَارَاتِ الْمِيَاهِ،
وَمَصَبَّاتِ مِيَاهِ الصَّرْفِ الصِّحِّيِّ لَتَخَلَّصُوا مِنَ التَّلَوُّثِ،
وَهَكَذَا صِرْتُ قَطْرَةً نَظِيفَةً، وَسِرْتُ فِي عُرُوقِ الشَّجَرَةِ الْرَّائِعَةِ،
ثُمَّ وَصَلْتُ إِلَى أَزْهَارِهَا، وَجَاءَتْ نَحْلَةٌ فَحَطَّتْ عَلَيْهَا،
وَأَخَذَتْ مِنْهَا الرَّحِيقَ، وَمَضَتْ بِي مَعَ الرَّحِيقِ إِلَى طَرَفِ
صَحْرَاءَ بَعيدَةٍ لَا يَعْرِفُهَا النَّاسُ، مَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ عَسَلًا
يَا عَزِيزِي ! كَانَ خَالِدٌ مُسْتَغْرِقًا، يَسْتَمِعُ إِلَى قَطْرَةِ الْمَاءِ
وَقَدْ نَسِيَ نَفْسَهُ، حَتَّى أَيْقَظَهُ صَوْتُ أُمِّهِ مُنَادِيًا: هَيَّا يَا
خَالِدُ، تَعَالَ تَنَاوَلْ فُطُوْرَكَ لِتَذْهَبَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، لَقَدْ
تَأَخَّرْتَ فِي الشُّرْفَةِ، رَجَعَ خَالِدٌ إِلَى الْغُرْفَةِ وَقَالَ لِأُمِّهِ:
أُرِيدُ أَنْ أَحْفِرَ بِئْرًا أَمَامَ مَنْزِلِنَا، ضَحِكَتْ أُمُّ خَالِدٍ
وَقَالَتْ: هَيَّا، لَا وَقْتَ لِمِثْلِ هَذَا الْحَديثِ.
وَمَضَى خَالِدٌ إِلَى
الْمَدْرَسَةِ وَهُوَ يُفَكِّرُ كَيْفَ يَحْفِرُ بِئْرًا لِجَمْعِ الْمِيَاهِ.
تعليقات
إرسال تعليق